الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
لما قدم أُسامَةُ ببعث الشام على أبي بكر استخلفه على المدينة ومضى إلى الرَبَذةِ فهزم بني عبس وذبيان وكنانة بالأبرق ورجع إلى المدينة كما قدَّمناه حتى إذا استجمّ جند أسامة وتاب مَنْ حوالي المدينة خرج إلى ذي القِصَّة على بريد من تلقاء نجد عقد فيها أحد عشر لواءً على أحد عشر جنداً لقتال أهل الردَة وأمر كل واحد باستنفار من يليه من المسلمين من كل قبيلة وترك بعضها لحماية البلاد فعقد لخالد بن الوليد وأمره لطليحة وبعده لمالك بن نويرة بالبطاح ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة واليمامة. ثم أردفه بشرحبيل بن حسنة وقال له: إذا فرغت من اليمامة فسر إلى قتال قضاعة والمهاجرين إلى أمية وأمره بالغالة من جنود العنسي باليمن وبإعانة الأبناء على قيس بن مكشوح ومن معه. ثم تمضي إلى كندة بحضرموت. ولخالد بن سعيد بن العاص وقد كان قدم بعد الوفاة إلى المدينة من اليمن وترك عماله فبعثه إِلى مشارف الشام ولعمرو بن العاص إلى قتال المرتدَّة من قضاعة ولحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة. فَحُذَيْفَةُ لأهل دُبا وعَرْفَجَة لِمَهْرَةَ وكل واحد منهما أمير في عمله على صاحبه. ولطُرَيْفَةَ بن حاحِزَ وبعثه إلى بني سًلَيْم ومن معهم من هوازن ولسويد بن مقرن وبعثه إلى تهامة اليمن وللعلاء بن الحضرمي وبعثه إلى البحرين وكتب إلى الأمراء عهودهم بنص واحد: بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد إِليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وجهره وأمره بالجدّ في أمر اللّه ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إِليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإِن لم يجيبوه شنَّ الغارة عليهم حتى يقروا له. ثم يُنبئُهُمْ بالذي عليهم والذي لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم لا يُنْظِرُهُمْ ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم. فمن أجاب إلى أمر الله عزّ وجل وأقرّ له قَبِلَ ذلك منه وأعانَهُ عليه بالمعروف. وإنما يقاتل من كفر باللّه على الإقرار بما جاء من عند اللّه فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل وكان اللّه حسيبه بعد فيما استسر به ومن لم يجب إلى داعية اللّه قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئاً مما أعطى إلا الإسلام. فمن أجابه وأقر قبل منه وأعانه ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه عزّ وجلّ قتلهم فيهم كل قتلة بالسلاح والنيران. ثم قسم ما أفاء الله عليه إِلا الخمس فإنه يبلغاه ويمنع أصحابه العجلة والفساد وان يدخل فيهم حشواً حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونَاً ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم. وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقَّدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول انتهى. وكتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدّة كتاباً واحداً في نسخ كثيرة على يد رسل تقدَموا بين أيديهم نصه بعد البسملة: هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامّة أو خاصّة أقام على الإسلام أو رجع عنه سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع إلى الضلالة والهوى فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إِله إِلا هو وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وأومن بما جاء به وأكفر من أبي وأجاهده. أما بعد: ثم قرر أمر النبوّة ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأطنب في الموعظة ثم قال: وإِني بعثت إليكم فلانأ في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته أن لا يقاتل أحداًً ولا يقتله حتى يدعوه إِلى داعية اللّه فمن استجاب له واقر وكفّ وعمل صالحاً قَبِلَ منه وأعانه ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقي على أحد منهم هدر عليه فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله. وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية للأذان فإذا أذّن المسلمون فأذنوا كفُوا عنهم وإن لم يؤذّنوا فاسألوهم بما عليهم فإن أبوا عاجلوهم وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم انتهى. فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود وخرجت الأمراء ومعهم العهود وكان أوّل ما بدأ به خالد طليحة وبني أسد. خبر طليحة كان طلَيْحَة قد ارتدّ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كاهنأ فادعى النبوْة وأتبعه أفاريق من بني إِسرائيل ونزل سُمَيْراء. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضِرارَ بن الأزْوَرِ إلى قتاله مع جماعة فاجتمع عليهم المسلمون وهمّ ضرار بمناجزته فأتى الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم فاستطار أمر طليحة واجتمعت إليه غَطَفان وهَوازِنُ وَطَيْءٌ وفر ضِرارُ ومن معه من العمال إلى المدينة وقدمت وفودهم على أبي بكر في الموادعة على ترك الزكاة فأبى من ذلك وخرج كما قدَمناه إلى غطفان وأوقع بهم بذي القصَّة فانضموا بعد الهزيمة إلى طليحة وبني أسد بالبزاخة وكذلك فعلت طيء وأقامت بنو عامر وهوازن ينتظرون صَمَدَ خالد إلى طليحة ومعه عُيَيْنَة بن حصن على بَزاخَةَ من مياه بني أسد وأظهر أنه يقصد خيبر ثم ينزل إلى سَلْمَى واجأ فيبدأ بطيء. وكان عديّ بن حاتم قد خرج معه في الجيش فقال له: أنا اجمع لك قبائل طيء يصحبونك إلى عدوِّك وسار إليهم فجاء بهم وبعث خالد بن عُكاشَةَ بن مُحْصِنٍ وثابت بن أقرم من الأنصار طليعةً ولقيهما طليحة وأخوه فقتلاهما ومرِّ بهما المسلمون. فعظم عليهم قتلهما. ثم عبى خالد كتائبه وثابت بن قيس علي الأنصار وعدي بن حاتم على طيء ولقي القوم فقاتلهم وعيينة بن حصن مع طليحة فيه سبعمائة من غطفان واشتَدّ المجال بينهم وطليحة في عباءة يتكذَّب لهم في انتظار الوحي فجاء عيينة بعدما ضجر من القتال وقال: هل جاءّك أحد بعد قال لا ثم راجعه ثانية ثم ثالثة فقال: جاء. وقاله إن لك رحى كرحاه وحديثاً لا تنساه. فقال عيينة: يا بني فزارة الرجل كذاب وانصرف. فانهزموا وقتل من قتل وأسْلَمَ الناسُ طُلَيْحَةَ فوثب على فرسه واحتقب امرأته فنجا بها إِلى الشام ونزل في كَلْب من قُضَاعَةَ على النَقْع حتى أسلمت أسَدٌ وغَطَفَاَنُ فأسلم ثم خرج مُعْتَمِراً أيام عُمَرَ ولًقيه بالمدينة فبايعه وبعثه في عساكر الشام فأبلى في الفتح ولم يصب من عيالات بني أسد في واقعة بزاخة شيء. لأنهم كانوا أخرجوهم في الحصون عند واسط وأسلموا خشية على ذراريهم. خبر هوازن وسليم وبني عامر كان بنو عامر ينتظرون أمر طليحة وما تصنع أسد وغَطَفَانُ حتى أحيط بهم وكان قرة بن هُبَيْرَةَ في كَعْب وعَلْقَمَةُ بن عِلافَةَ في كلاب وكان علقمة قد ارتد بعد فتح الطائف. ولما قبض النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه بلَّغ أبا بكر خبره فبعث إليه سَرية مع القعْقَاع بن عمرو من بني تميم فأعار عليهم فأفلت وجاء بأهله وولده وقومه فأسلموا. وكان قُرّة بن هُبَيْرَةَ قد لقي عمرو بن العاص منصرفه من عمان بعد الوفاة وأضافه وقال له: اتركوا الزكاة فإن العرب لا تدين لكم بالأتاوَة فغضب لها عمرو وأسمعه وأبلغها أبا بكر فلما أوقع خالد ببني أسد وغطفان وكانت هوازن وسليم وعامر ينتظرون أمرهم فجاءوا إِلى خالد وأسلموا وقبل منهم الإسلام إِلا من عدا على أحد من المسلمين أيام الردَة فإنه تتبعهم فأحرق وقحط ورضخ بالحجارة ورمى من رؤوس الجبال. ولما فرغ من أمر بني عامر أوثق عيينة بن حصين وقرَّة بن ثم اجتمعت قبائل غطفان إلى سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر بن ظَفْر في الحَوْأب فنزلوا إليها وتذمروا وكانت سلمى هذه قد سبيت قبل واعتقتها عائشة وقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم يومأ وقد دخل عليها وهي في نسوة ببيت عائشة فقال: إِن إِحداكنَّ تستبيح كلاب الحوأب وفعلت ذلك سلمى حين ارتدت. واجتمعت إليها الفلال من غطفان وهوازن وسليم وطيء وأسد وبلغ ذلك خالداً وهو يتبع الثأر ويأخذ الصدقات فسار إليهم وقاتلهم وسلمى واقفة على جملها حتى عُقِدَ وقتِلَتْ وقتل حول هودجاها مائة رجل فانهزموا وبعث خالد بالفتح على أثره بعده بعشرين ليلة. وأما بنو سُلَيْم فكان الفُجَاءَةُ بن عبد ياليل قدم على أبي بكر ليستعينه بسلاح مدَعياً إسلامه ويضمن له قتال أهل الردة فأعطاه وأمره وخرج إلى الجون وارتدّ وبعث نَجيَّةَ بن أبي المًثَنَى من بني الشريد وأمره بشنِّ الغارة على المسلمين في سليم وهوازن فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم وأعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه ولقياه فقتل تحته وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره وجاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطباً ثم رمى به في النار مقموطاًً وفاءت بنو سليم كلُّهم وفاء معهم أبو شجرة بن عبد العزَّى أبو الخنساء وكان فيمن ارتدّ. قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله في بني تميم الزبْرقان بن بدر على الربابِ وعَوْفٍ والأبناءِ وقيس بن عاصم على المقاعِس والبُطونِ وصَفْوَانُ بن صفوانٍ وسَبْرَة بن عمرو على بني عمرو ووكيع بن مالك على بني مالك ومالك بن نُوَيْرَةَ على بني حنظلة. فجاء صفوان إلى أبي بكر حين بلغته الوفاة بصدقات بنىِ عمرو وجاء الزبرقان بصدقات أصحابه وخالفه قيس بن عاصم في المقاعس والبطون لأنه كان ينتظره. وبقي من أسلم منهم متشاغَلاَ بمن تربص أو ارتاب. وبينما هم على ذلك فجأتهم سجاح بنت الحارث بن سويد من بني عقفان أحد بطون تغلب وكانت تنبأت بعد الوفاة واتبعها الهُذَيْل بن عمران من بني تغلب وعقبة بن هلال في النمر والسليل بن قيس في شيبان وزياد بن بلال. وكان الهذيل نصرانياً فترك دينه إلى دينها وأقبلت من الجزيرة في هذه الجموع قاصدة المدينة لتغزو أبا بكر والمسلمين وانتهت إلى الحرف فدهم بني تميم أمر عظيم لما كانوا عليه من اختلاف الكلمة فوادعها مالك بن نويرة وثناها عن الغزو وحرضها على بني تميم ففرّوا أمامها ورجع إليها وكيع بن مالك واجتمعت الربابُ وضُبًة فهزموا أصحاب سجاح وأسروا منهم. ثم اصطلحوا وسارت سجاج فيمن معها تريد المدينة فبلغت النِبَاجَ فاعترضهم بنو النجَيْم فيمن تأشَّبَ إليهم من بني عمرو وأغارو عليهم فأسروا الهذيل وعقبة ثم تحاجزوا على أن تَطلق أسراهم ويرجعوا ولا يجتازوا عليهم ورجع عن سجاح مالك بن نويرهَ ووكيع بن مالك إلى قومهم ويئست سجاح وأصحابها من الجواز عليهم ونهدت إلى بني حنيفة. وسار معها من تميم الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن حريث وشبت بن رَبَعي ونظراؤهم. وصانعها مسَيْلِمَةُ بما كان فيه من مزاحمة ثُمامَةَ بن إِثال له في اليمامة. وزحف شَرْحَبِيلُ بن حَسْنَةَ والمسلمون إِليه فأهدى لها واستأمنها وكانت نصرانية أخذت الدين من نصارى تغلب. فقال لها مسيلمة: نصف الأرض لنا ونصف الأرض لقريش لكنهم لم يعدلوا فقد جعلت نصفهم لك ويقال إِنها جاءت إِليِه واستأمنته وخرج إليها من الحصن إِلى قَبة ضربت لها بعد أن جمرها فدخل إِليها وتحرك الحرث حوالي القَبّة وسجع لها وسجعت له من أسجاع الفرية. فشهدت له بالنبوَة وخطبها لنفسه فتزوجته وأقامت عنده ثلاثاً ورجعت إلى قومها فعذلوها في التزويج على غير صداق فرجعت إليه فقال لها: نادي في أصحابك إني وضعت عنهم صلاة الفجر والعتمة مما فرض عليهم محمد وصالحته على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة فأخذته وسألت أن يسلِّفها النصف للعام القابل ودفعت الهذيل وعقَّة لقبضه فهمَّ على ذلك وإذا بخالد بن الوليد وعساكره قد أقبلوا فانفَضّت جموعهم وافترقوا ولحقت سجاح بالجزيرة فلم تزل في بني تغلب حتى نقل معاوية عام الجماعة بني عقفان عشيرتها إلى الكوفة وأسلمت حينئذ سجاح وحسن إِسلامها. ولما افترق وفد الزبرقان والأقرع على أبي بكر وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونحن نضمن لك أمرها ففعل وكتب لهم بذلك. وكان طلحة بن عبيد اللّه يتردد بينهم في ذلك فجاء إلى عمر ليشهد في الكتاب فمزَّقه ومحاه وغضب طلحة وقال لأبي بكر رضي الله عنه: أنت الأمير أم عمر رضي الله عنه. فقال عمر: غير أن الطاعة لي! وشهد الأقرع والزبرقان مع خالد اليمامة والمشاهد كلها. ثم مضى الأقرع مع شرحبيل إلى دومة. خبر البطاح ومالك بن نويرهّ لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة وراجع بنو تميم الإسلام أقام مالك بن نويرة متحيِّراً في أمره واجتمع إِليه من تميم بنو حنظلة واجتمعوا بالبطاح فسار إِليهم خالد بعد أن تقاعد عنه الأنصار يسألونه انتظار كتاب أبي بكر فأبى إِلاَّ انتهاز الفرصة من هؤلاء فرجعوا إِلى اتباعه ولحقوا به. وكان مالك بن نويرة لما تردد في أمره فرق بني حنظلة في أموالهم ونهاهم عن القتال ورجع إلى منزله. ولما قدم خالد بعث السرايا يدعون إِلى الإسلام ويأتون بمن لم يُحب وأن يقتلوه فجاءوا بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع واختلفت السريّة فيهم فشهد أبو قتادة أنهم أذَنوا وصلّوا. فحبسهم عند ضرار بن الأزور وكانت ليلة ممطرة فنادى مناديه أن ادفئوا أسراكم وكانت في لغته كناية عن القتل فبادر ضرار بقتلهم وكان كنانيًّا. وسمع خالد الداعية فخرج متأسفأ وقد فرغوا منهم. وأنكر عليه أبو قتادة فزجره خالد فغضب ولحق بأبي بكر ويقال إنهم لما جاءوا بهم إِلى خالد خاطبه مالك بقوله: فعل صاحبكم شأن صاحبكم فقال له خالد: أوليس لك بصاحب ثم قتله وأصحابه كلهم. ثم قدم خالد علىِ أبي بكَر وأشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة أو يعزله فأبى وقال: ما كنت أشيم سيفاً سله الله على الكافرين وودى مالكاً وأصحابه وردَ خالداً إلى عمله. خبر مسيلمة واليمامة لما بعث أبو بكر رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل إِلى مسيلمة الكذاب واتبعه شرحبيل استعجل عكرمة فانهزم وكتب إلى أبي بكر بالخبر فكتب إِليه لا ترجع فتوهن الناس وامض إلى حذيفة وعرفجة فقاتلوا مَهَرَةَ وأهل عُمان فإذا فرغتم فامض أنت وجنودك واستنفروا من مررتم عليه حتى تلقوا المهاجر بن أمية باليمن وحضرموت. وكتب إِلى شرحبيل أن يمضي إلى خالد فإذا فرغتم فامض أنت إلى قضاعة فكن مع عمرو بن العاص على من ارتَدّ منهم. ولما فرغ خالد من البطاح ورضي عنه أبو بكر بعثه نحو مسيلمة وأوعب معه الناس وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبرًاء بن عازب. وتعجَّل خالد إِلى البطاح وانتظر البعوث حتى قدمت عليه فنهض إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير يقال أربعون ألف مقاتل متفرقين في قراها وحجرها. وتعجَّل شرحبيل كما فعل عكرمة بقتال مسيلمة فنكب وجاء خالد فلامه على ذلك. ثم في خليط من عند أبي بكر مددأ لخالد ليكون ردءأ له من خلفه ففرًت جموع كانت تجمَّعت هنالك من فلال سجاج وكان مسيلمة قد جعل لهم جعلاً. وكان الرجالُ بن عَنْفَوَةَ من أشراف بني حنيفة شهد لمسيلمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه معه في الأمر لأن الرجال كان قد هاجر وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وتفقَّه في الدين. فلما ارتد مسيلمة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلِّماً لأهل اليمامة ومشغباً على مسيلمة فكان أعظم فتنة على بني حنيفة منه. واتبع مُسَيْلِمَةَ على شأنه وشهد له وكان يُؤَذَن لمسيلمة ويشهد له بالرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فعظم شأنه فيهم. وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره وكان مسيلمة يَسْجَعُ لهم بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن يأتيه ويأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضد المقصودً. ولما بلغ مسيلمة وبني حنيفة دنو خالد خرجوا وعسكروا فيِ منتهى ريف اليمن واستنفروا الناس فنفروا إليهم وأقبل خالد ولقيه شَرْحَبِيلُ بن حَسَنةَ فجعله على مقدمته حتى إذا كان على ليلة من القوم هجموا على مجاعة في سرية أربعين أو ستين راجعين من بلاد بني عامر وبني تميم يثأرون فيهم فوجدوهم دون ثنية اليمامَةِ فقتلوهم أجمعين. وقيل له استبقِ مجاعة بن مرارة إن كنت تريد اليمامة فاستبقى. ثم سار خالد ونازل بني حنيفة ومسَيْلِمَةَ والرَّجَّالُ على مقدمة مسيلمة واشتدت الحرب وانكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خِباء خالد ومجاعة بها أسير مع أم متمم زوجة خالد فدافعهم عنها مجاعة وقالت: نعمت الحرة. ثم تراجع المسلمون وكرّوا على بني حنيفة. فقال المحكم بن الطفيل: ادخلوا الحديقة يا بني حنيفة فإني أمنع أدباركم فقاتل ساعة ثم قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ثم تذامر المسلمون وقاتل ثابت بن قيس فقتل ثم زيد بن الخطاب ثم أبو ِحذيفة ثم سالم مولاه ثم البَرَّاءُ أخو أنس بن مالك. وكان تأخذه عند الحرب رعدةً حتى ينتفض ويقعد عليه الرجال حتى يبول. ثم يثور كالأسَدِ فقاتل وفعل الأفاعيل. ثم هزم الله العدوّ وألجأهم المسلمون إلى الحديقة وفيها مسيلمة. فقال البراء: القوني عليهم من أعلى الجِدار فاقتحم وقاتلهم من أعلى الحديقة ودخل المسلمون عليهم. وقتل مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ. وكان زيد بن الخَطًاب قتل الرجال بن عَنْفَوَةَ. وكان خالد لما نزل بني حنيفة ومسيلمة ودارت الرَّحى عليه طلب البراز فقتل جماعة ثم دعا مسيلمة للبراز والكلام فحادثه فحاول فيه غِرةَ وشيطانه يوسوس إليه. ثم ركبه خالد فأرهقه وأدبروا وزالوا عن مراكزهم. وركبهم المسلمون فانهزموا. وتطاير الناس عن مسيلمة بعد أن قالوا: أين ما كنت تعدنا. فقال: قاتلوا على أحسابكم. وأتاه وَحْشِي فرماه بحربة فقتل. واقتحم الناس عليه حديقة الموت من حيطانها وأبوابها فقتل فيها سبعة عشر ألف مقاتل من بني حنيفة. وجاء خالد بمجاعة ووقفه على القتلى ليريه مسلمة فمر بِمُحًكم فقال: هوذا! فقال مجاعة: هذا والله خير منه. ثم أراهه مسيلمة وهو رجل ذميم أُخَينس فقال خالد: هذا الذي فعل فيكم ما فعل فقال مجاعة: قد كان ذلك وانه والله ما جاءك إِلا سرعان الناس وإِن جماهيرهم في الحصون فهلمّ أصالحك على قومي. وقد كان خالد التقط من دون الحصون ما وجد من مال ونساء وصبيان ونادى بالنزول عليها. فلما قال له مجاعة ذلك قال له أصالحك على ما دون النفوس وأنطلق يشاوره. فأفرغ السلاح على النساء ووقفن بالسور ثم رجع إليه وقال: أبوا أن يجيزوا ذلك. ونظر خالد إلى رؤوس الحصون وقد اسودت والمسلمون قد نهكتهم الحرب وقد قتل من الأنصار ما ينيف على الثلاثمائة والستين ومن المهاجرين مثلها ومن التابعين لهم مثلها أو يزيدون وقد فشت الجراحات فيمن بقي فجنح إلى السلم فصالحه على الصفراء والبيضاء ونصف السبِي والحَلْقَةِ وحائط ومزرعة من كل قرية فأبوا فصالحهم على الربع فصالحوه وفتحت الحصون فلم يجد فيها إِلا النساء والصبيان. فقال خالد: خدعتني يا مجاعة فقال: قومي! ولم استطع إلا ما صنعت فعقد لهم وخيرَهم ثلاثاً. فقال له سَلَمَةُ بن عُمَيْرٍ لا نقبل صلحأ! ونعتصم بالحصون ونبعث إلى أهل القرى فالطعام كثير والشتاء قد حضر فتشاءم مجاعة برأيه وقال لهم: لولا أني خدعت القوم ما أجابوا إلى هذا فخرج معه سبعة من وجوه القوم وصالحوا خالدأ وكتب لهم وخرجوا إلى خالد للبيعة والبراءة مما كانوا عليه. وقد أضمر سلمة بن عمير الفتك بخالد فطرده حين وقعت عينه عليه واطلع أصحابه على عذره فأوثقوه وحبسوه ثم أفلت فأتبعوه وقتلوه. وكان أبو بكر بعث إلى خالد مع سلمة بن وقش إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموسى من بني حنيفة فوجده قد صالحهم فأتم عقده معهم. ووفى لهم وبعث وفداً منهم إِلى أبي بكر بإسلامهم فقبلهم وسألهم عن أسجاع مسيلمة فقصُوها عليه فقال: سبحان اللّه هذا الكلام ما خرج إلا من إل أو بر فأين يذهب بكم عن أحلامكم وردَّهم اللّه إلى قومهم. لما فرغ خالد من اليمامة ارتحل إلى وادٍ من أوديتها وكانت عبد القيس وبكرِ بن وائل وغيرهم من أحياء ربيعة قد ارتدّوا بعد الوفاة وكذلك المنذر بن ساوى من بعدها بقليل. فأما عبد القيس فردَّهم الجارود بن المُعًلّى وكان قد وفد وأسلم ودعا قومه فأسلموا فلما بلغهم خبر الوفاة ارتدوا وقالوا: لو كان نبياً ما مات. فقال لهم الجارود: تعلمون أن لله أنبياء من قبله لم تروهم وتعلمون أنًهًم ماتوا ومحمد صلى الله عليه وسلم قد مات. ثم تشهد فتشهدوا معه وثبتوا على إسلامهم وخلُّوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوه والمسلمين. وقال ابن اسحاق: كان أبو بكر بعث العَلاءَ بن الحَضْرَمِيّ إلى المنذر وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولاه فلما كانت الوفاة وارتدّت ربيعة ونصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمَّى المغرور فأقاموه مَلِكاً كما كان قومه بالحيرة وثبت الجارود وعبد القيس على الإسلام. واستمر بكر بن وائل على الردَّة وخرج الحطْمُ بن ربيعة أخو بني قيس بن ثعلبة حتى نزل بين القطيف وهَجَر وبعث إلى دارين فأقاموا فجعل عبد القيس بينه وبينهم وأرسل إلى المغرور بن سويد أخي النعمان بن المنذر وبعثه إلى جواثى وقال: أثبت فإن ظفرت ملَّكتك بالبحرين حتى تكون كالنُعْمان بالحيرة فحاصره المسلمون بجواثى. وجاء العلاء بن الحضرمي لقتال أهل الردة بالبحرين ومر باليمامة فاستنفر ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة وكان متردداً وألحقَ عِكْرِمَةَ بِعُمانَ ومَهْرَةَ وأمر شرحبيل بالمقام حيث هو يغاور مع عمرو بن العاص أهل الردَة من قُضاعَة عمرو يغاور سعداً وبلق وشرحبيل يغاور كلباً ولفها. ثم مر ببلاد بني تميم فاستقبله بنو الربابِ وبنو عُمَرَ ومالك بن نويرَة بالبِطاح يقاتلهم ووكيع بن مالك يواقف عمرو بن العاص وقيس بن عاصم من المقاعس والبطون يواقفون الزبْرَقَانَ بن بدر والأبناء وعَوْفٍ وقد أطاعوه على الإسلام وحنظلة متوقفون. فلما رأى قيس بن عاصم يلقى الرباب وعمرو العلاء وقدم وجاء بالصدقات إِلى العلاء وخرج معه لقتال البحرين فسار مع العلاء من بني تميم مثل عسكره ونزل هجر وبعث إلى الجارود أن ينازل بعبد القيس الحَطْمَ وقومه مما يليه. فاجتمع المشركون إلى الحطم إلا أهل دارين والمسلمون إلى العلاء وخندقوا واقتتلوا وسمعوا في بعض الليالي ضوضاءَ شديدة أي جلبة وصياحأ وبعثوا من يأتيهم بخبرها فجاءهم بأن القوم سُكارى فبيتوهم ووضعوا السيوف فيهم وأقتحموا الخندق وفرً القوم هراباً فمتمرد وناج ومقتول ومأسور. وقتل قيس بن عاصم الحطم بن ربيعة ولحق جابر بن بجير وضربه فقطع عصبه ومات وأسر عفيف بن المنذر المغرور بن سويد وقال للعلاء: أجرني فقال له العلاء: ويقال إن المغرور اسمه وليس هو بلقب. وقتل المغرور بن سويد بن المنذر وقسم الأنفال بين الناس وأعطى عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال من أسلاب القوم وثيابهم وقصد الفلال إلى دارين وركبوا السفين إليها ورجع الأخرون إلى قومهم. فكتب العلاء إلى من أقام على إسلامه من بكر بن وائل بالقعود لأهل الردة في السبل وإلى خصفة التميمي والمثنى بن حارثة بمثل ذلك فرجعوا إلى دارين وجمعهم الله بها. ثم لما جاءته كتب بكر بن وائل وعلم حسن إسلامهم أمر أن يؤتى من خلفه على أهل البحرين. ثم ندب الناس إلى دارين أن يستعرضوا البحر فارتحلوا واقتحموا البحر على الظهر وكلهم يدعوا: يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا محيي الموتى يا حي يا قيُوم لا إِله إِلاَ أنت يا ربنا. ثم أجازوا الخليج يمشون على مثل رمل مشياً فوقها ما يغمر أخفاف الإبل في مسيرة يوم وليلة فلقوا العدوَّ واقتتلوا وما تركوا بدارين مخبرأ وسبوا الذراري واستاقوا الأموال وبلغ نفل الفارس ستَّة آلاف والراجل ألفين. ورجع العلاء إلى البحرين وضرب الإسلام بِجِرانه. ثم أرجف المرجفون بأن أبا شيبان وثعلبة والحر قد جمعهم مفروق الشيباني على الردة. فوثق العلاء بأن اللهازم تفارقهم وكانوا مجمعين على نصره وأقبل العلاء بالناس فرجعوا إلى من أحب المقام وقفل ثمامة بن أثال فيهم ومروا بقيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فرأوا خميصة الحطم عليه فقالوا: هو قتله فقال: لم أقتله ولكن الأمير نفلنيها فلم يقبلوا وقتلوه. وكتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم قتله زيد ومسمِع. فكتب إليه أبو بكر أن بلغك عن بني ثعلبة ما خاض فيه المرجفون فأبعث إليهم جنداً وأوصهم وشرد بهم من خلفهم. ردة أهل عمان ومهرة واليمن نبغ بعُمانَ بعد الوفاة رجل من الأزْدِ يقال له لقيط بن مالك الأزدي يسامى في الجاهلية الجُلَنْدِي فدفعِ عنها الملكين اللذين كانا بها وهما جَيْفَرً وعًبّادُ ابنا الجلندي فارتد وادعى النبَوة وتغلب على عمان ودفع عنها الملكين وبعث جيفر إِلى أبي بكر بالخبر فبعث أبو بكر حذَيْفَةَ بن مُحْصِن من حِمْيَرٍ وعَرْفَجَةَ البارِقّي. حُذَيْفَةُ إِلى عُمان وعَرْفَجَةُ إلى مَهْرَةَ وإن اجتمعا فالأمير صاحب العمل وأمرهما أن يكاتبا جيفر أو يأخذا برأيه. وقد كان بعث عِكْرِمَةَ إلى اليمامة ومسَيْلِمَةَ ووقعت عليه النكبة كما مرّ فأمره بالمسير إلى حذيفة وعرفجة ليقاتل معهما عمان ومهرة ويتوجَّه إذا فرغ من ذلك إلى اليمن. فمضى عكرمةُ فلحق بهما قبل أن يصلا إلى عُمان وقد عهد إِليهم أبو بكر أن ينتهوا إلى رأي عكرمة فراسلوا جَيفَرَ وعباداً وبلغ لقيطاً مجيء الجيوش فعسكر بمدينة دبا وعسكر جيفر وعباد بصحار. واستقدموا عكرمة وحذيفة وعرفجة وكاتبوا رؤساء الدين لقيط فقدموا بجيوشهم ثم صمدوا إلى لقيط وأصحابه فقاتلوهم وقد أقام لقيط عياله وراء صفوفه وهم المسلمون بالهزيمة حتى جاءهم مددهم من بني ناجية وعليهم الخريتُ بن راشد ومن عبد القيس وعليهما سيحان بن صوحان فانهزم العدو المسلمون وقتلوا نحواً من عشرة آلاف وسبوا الذراري والنساء وتم الفتح وقسموا الأنفال وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة وكان الخمس ثمانمائة رأس. وأقام حُذَيْفَةُ بِعُمان وسار عكْرِمَةُ إلى مَهْرَةَ وقد استنفر أهل عمان ومن حولها من ناحية الأزد وعبد القيس وبني سعيد من تميم فاقتحم على مهرة بلادهم وهم على فرقتين يتنازعان الرياسة فأجابه أحد الفريقين وسار إلى الآخرين فهزمهم وقتل رئيسهم ثم أصابوا منهم ألفي نجيبة. وأفاد المسلمون قوة بغنيمتهم وأجاب أهل تلك النواحي الإسلام وهم أهل نجد والروضة والشاطىء والجزائر والمُرِّو واللبان وأهل جيرة وظهور الشمر والفرات وذات الخيم فاجتمعوا كلهم على الإسلام. وبعث إلى أبي بكر بذلك البشير وسار هو إلى اليمن للقاء المهاجر بن أبي أمية كما عهد إليه أبو بكر. ولما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إِليه أبو بكر في المحرّم من سنة اثنتي عشرة فأمره بالمسير إلى العراق ومرج الهند وهي الأيلة منتهى بحر فارس في جهة الشمال البصرة فيتألف أهل فارس ومن في مملكتهم من الأمم. فسار من اليمامة وقيل قدم أي بكر ثم سار من المدينة وانتهى إلى قرية بالسواد وهي بانِقْيا وباروسما واللَيْس وَكانت لابن صَلوبا فصالحهم على عشرة آلاف دينار فقبضها خالد ثم سار إِلى الحيرة وخرج إليه أشرافها مع إياس بن قُبَيْصَةَ الطائي الأمير عليها بعد النُعْمان بن المنذر فدعاعم الإسلام أو الجزية أو المناجزة. فصالحوه على تسعين ألف درهم وقيل إنما أمره أبو أن يبدأ بالأبَلَةِ ويدخل من أسفل العراق. وكتب إلى عِيَاض بن غَنْم أن يبدأ بالمضيخ ويدخل من أعلى العراق وأمر خالداً بالقعقاع بن عمرو التيمي وعياضاً بن عوف الحميري. وقد كان المُثَنَّى بن حارِثَةَ الشَّيْبَاني استأذن أبا بكر في غزو العراق فأذن له فكان يغزوهمِ قبل قدوم خالد. فكتب أبو بكر إليه وإلى حَرْمَلَةَ ومدعور وسلمان أن يلحقوا بخالد بالأبلَة وكانوا في ثمانية آلاف فارس ومع خالد عشرة آلاف. فسار خالد في أول مقدمته المثنى وبعده عدي بن حاتم. وجاء هو بعدهما على مسيرة يوم بين كل عسكر وواعدهما الحُفَيْر ليجتمعوا به ويصادموا عدوّهم وكان صاحب ذلك المرْج من أساورة الفرس اسمه هرمز وكان يحارب العرب في البرّ والهند في البحر. فكتب إلى اردشير كسرى بالخبر وتعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه حتى نزل الحفير وجعل على مَجنَبَتَيه قَباذَ وانوشجان يناسبانه في اردشير الأكبر واقترنوا بالسلاسل لئلا يفروا. وأروا خالدأ أنهم سبقوا إلى الحفير فمال إلى كاظمة فسبقه هُرْمزُ إليها أيضاً. وكان للعرب على هرمز حنق لسوء مجاورته. وقدم خالد فنزل قبالتهم على غير ماء وقال: ليعيدن الماء فإن الله جاعله لأصبر الفريقين. ثم أرسل اللّه سحابة فاغدرت من ورائهم. ولما حطوا أثقالهم قدم خالد ودعا إلى النزال فبرز إليه هرمز وترجل ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد وحمل أصحاب هرمز للغدر به فلم يشغله ذلك عن قتله. وحمل القعقاع بن عمرو فقتلهم وانهزم أهل فارس وركبهم المسلمون. وسميت الواقعة ذات السلاسل. وأخذ خالد سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف وبعث بالفتح والأخماس إلى أبي بكر. وسار فنزل بمكان البصرة وبعث الثني بن حارثة في آثار العدو فحاصر حِصْنَ المرأة وفتحه وأسلمت فتزوجها وبعث معقل بن مُقَرِّن إلى الأبلَّةِ ففتحها وقيل إنما عُقْبَةُ بن غزوان أيام عمر سنة أربع عشرة. ولم يتعرض خالد وأصحابه إلى الفلاحين وتركهم وعمارة البلاد كما أمر أبو بكر به. وكان كسرى أردشير لما جاءه كتاب هُرْمُزَ بمسير خالد أمره بقارن بن فريانس فسار من المدائن ولما انتهى إلى الدار لقيه المنهزمون عن هرمز ومعهم قَباذُ وانوشِجان فتذامروا ورجعوا ونزلوا النهر وسار إليهم خالد واقتتلوا وبرزقان. فقتله معقل بن الاعْشَى بن النباش وقتل عاصم أبو شجان وقتل عدي قباذ. وانهزمت الفرس وقتل منهم نحو ثلاثين ألفاً سوى من غرق ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وكانت الغنيمة عظيمة وأخذ الجزية في الفلاحين وصاروا في ذمة. ولم يقاتل المسلمين من الفرس بعد قارن أعظم منه وتسمى هذه الوقعة بالثنيِّ وهو النهر. ولما جاء الخبر إلى اردشير بالهزيمة بعد الأندرزغر وكان فارساً من مولد السواد. فأرسل في أثره مع بُهْمَن حاذوَيْه وحشد الأندرزغر ما بين الحيرة وكَسْكَر من عرب الضاحية والدهاقين وعَسْكَرَ بالولجة وسار إليهم خالد فقاتلهم وصبروا. ثم جاءهم كمين من خلفهم فانهزموا ومات الأندرزغر عطشاً. وبذل خالد الأمان للفلاحين فصاروا ذمة وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم وأصاب اثنين من نصارى بكر بن وائل. أحدهما جابر بن بجَيْر والآخر ابن عبد الأسود من عِجْل فأسرهما وغضب بكر بن وائل لذلك. فاجتمعوا على الليث وعليهم عبد الأسود العِجْلِي فكتب أردشيرُ إلى بُهْمَنَ حاذَوَيْه وقد أقام بعد الهزيمة بقَسيناثا يأمره بالمسير إلى نصارى العرب بالليس فيكون معهم إلى أن يَقدْمُ عليهم جابان من المَرَازِبَةِ فقدم بهمن على أردشير ليشاوره وخالفه جابان إلى نصارى العرب من عِجْل وتَيْم اللات وضُبَيْعَةَ وعرب الضاحِيَةِ من الحيرة وهم مجتمعون على الليث. وسار إليهم خالد حين بلغه خبرهم ولا يشعر بجابان. فلما حطّ الأثقال سار إليهم وطلب المبارزة فبرز إليه مالك بن قيس فقتله خالد واشتد القتال بينهم وسائر المشركين ينتظرون قدوم بهمن. ثم انهزموا واستأسر الكثير منهم وقتلهمٍ خالد حتى سال النهر بالدم وسمِّي نهر الدم ووقف على طعام الأعاجم وكانوا قعوداً للأكل فنفله المسلمون. وجعل العرب يتساءلون عن الرقاقِ يحسبونه رقاعاً وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً. ولما فرغ من الليس سار إلى أمعيشيا فغزا أهلها وأعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها وخربها.
|